مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمودنقلاعن«المصري اليوم» ننشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود
التــى سجلــهــا قبـــل وفــاتــه
الحلقةالأولى..بذرة الشكتمهيد واجب
من كان يصدق ذلك؟أخيراً بعد عشرين عاماً من الاختفاء وقبل وفاته.. يتكلم.. سأل عنه الناس.. وتكلموا.. ويئسوا.. ثم سألوا.. واندهشوا.. وصمتوا.. تعددت الشائعات فمنها أنه تم إبعاده لأسباب سياسية ومنها أن مرضاً لعيناً أصابه وأجلسه فى البيت، ومن روج أنه ترك عائلته ووطنه وسار هائماً على وجهه فى البلاد يبحث عن اليقين.
أخيراً وبعد عشرين عاماً من العزلة وقبل وفاته.. يتحدث.. ويطل على الناس.. ويروى.
أكثر من أثار الجدل فى مصر خلال القرن العشرين.. وأكثر الشخصيات التى تعرضت للهجوم والشائعات طوال حياته.. أخيراً يتكلم صاحب أكثر الكتب الدينية إثارة للجدل فى القرن العشرين (الله والإنسان) كتابه الأول الذى حوكم من أجله فى شهر رمضان وقد كان بداية لموجة التكفير، التى عانى منها المفكرون فى مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة.
مصطفى محمود.. العالم، المفكر، الفيلسوف، الطبيب، الفقيه، الصحفى، السياسى، الكاتب، الأديب، يتكلم ويروى ويتحدث ويعلم أجيالاً افتقدوا القدوة وبحثوا عنها كثيراً، وحتى الآن لم يعثروا عليها.
ننشر هنا حقائق لأول مرة من خلال مذكراته التى روى منها جزءاً كبيراً وتم استخراج باقى هذه المذكرات من خلال أعماله وكتاباته، وهنا يجيب عن تساؤلات كثيرة ظلت بدون إجابات حول طفولته وجمعية الكفار التى كونها فى الثانية عشرة من عمره وكيف كانت حشرات الصراصير بداية رحلة الشك الطويلة، وهل بالفعل وصل مصطفى محمود إلى اليقين التام وما المنهج الذى استخدمه وكيف كان لوالده تأثير قوى عليه وكيف احتلت ابنته أمل مكانة الأم عنده.. وهل كان الموساد الإسرائيلى سبباً فى فشل زيجاته، وهل كان له يد فى الشائعات التى دارت حوله وهل حاول اغتياله؟
نكشف علاقته بكل من (هيكل.. صلاح حافظ.. عبدالوهاب.. صلاح جاهين.. هتلر.. السادات.. إحسان عبدالقدوس.. لويس جريس.. عبدالناصر.. لوتس عبدالكريم.. بنت الشاطئ.. روزاليوسف.. ماركس والشيوعية).
عن أزمة الشفاعة التى لم تنته حتى الآن يتحدث.. قصة البرنامج الذى كانت تخلو شوارع مصر من المارة أثناء إذاعته.. ولماذا أراد مصطفى محمود أن يصور للناس عذاب القبر بالصوت والصورة؟
أين مصطفى محمود؟
لم يكن اقترابنا منه سهلا أبدا.. هو ناسك فى صومعته الآن.. غير مسموح لأحد بالتطفل أو الاختراق.. لذلك كان السماح لنا بالاقتراب أمراً غير عادى.. ذهبنا فوجدناه ولم نجده.. فقد كان جسده الذى نحل يملأ المكان.. وصوته الذى وهن يخترق سمعنا.. لا يشغله شىء عن قضاياه التى تفرغ لها.. ابتعد عن المشكلات التى تشغل المصريين هذه الأيام.. الفلاسفة دائما لا ينظرون إلى التفاصيل وإنما يرجعون كل المشاكل إلى العلل الكبرى، وعلل مصر والأمة العربية والإسلامية تتلخص الآن من وجهة نظره فى (تدنى الأخلاق، والبعد عن الدين، والفرقة).
اقتربنا منه فى اليوم الذى شهد مولده والعائلة تحتفل بعيد ميلاده الـ٨٨ فى السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام ٢٠٠٨.. شاهدناه.. راقبناه.. حاورناه.. جادلناه واستمتعنا بالخصوصية التى خصنا بها هو وعائلته الكريمة.. طفنا فى صومعته الخاصة التى لم تتجاوز شقة مساحتها ٨٥ متراً عبارة عن حجرتين وصالة صغيرة، واجهنا صعوبة شديدة فى التحرك داخل أرجاء صومعته بسبب تلال الكتب المترامية، التى كادت تخفى معالم الجدران.
لم يتغير برنامجه طوال فترة اقترابنا منه فهو بعد الاستيقاظ فى الثامنة صباحاً يتناول وجبة إفطار خفيفة فى السرير «جبنة ومربة وعيش توست وشاى بلبن أو نسكافيه»، ثم يحصل على حمام دافئ، وبعد ذلك يبدأ بقراءة الجرائد، ويحصل على جولة قصيرة ليتابع أخبار العالم أمام التليفزيون، لينكبّ بعدها على كتبه ودفاتره يدون أفكاره مستنداً إلى لوحه الخشبى الشهير «مصطفى محمود لم يجلس على مكاتب أبدا» لا يتوقف إلا لتناول الغداء فى الخامسة والذى لم يتغير أبدا عن السمك المشوى يتلوه تفاحة وموزة، ليستمر فى اجتهاده بين كتب الفلسفة والدين وعلوم الكون، ويحاول تفسير بعض الآيات الكونية التى وردت فى القرآن الكريم ويتناول وجبة العشاء فى العاشرة مساء وهى مثل الإفطار ليواصل اجتهاده إلى الثانية عشرة مساء.
وعن عزلته هذه تقول ابنته أمل إنها ليست بجديدة عليه فقد كنا أطفالاً صغاراً لا نستطيع دخول غرفته.. والذى تغير هذه الأيام أن فترة العزلة قد طالت، لدرجة أنه يظل لأيام لا يتحدث مع أحد، مما يدفعها للقلق عليه فتذهب لتطمئن عليه فتجده فى حالة تأمل وسكون تام أو غرق فى القراءة، وعندما أظهرت قلقها عليه ذات مرة طمأنها وقال: «لا تقلقى على فأنا لا أعيش وحدى فالله معى ولا يتركنى».
إلا أن الأزمة الأخيرة التى أرقدته داخل المستشفى الذى يحمل اسمه، حيث عانى من التهابات شديدة فى قرنية العين.. ربما حسم أمره وقتها وقرر أنه آن الأوان أن يخرج من عزلته ويفتح دفاتر أسراره.
هناك صور لا تنمحى من الذاكرة أبداً مثل:
■ متى فقدت الأمل فى الحلم ورضيت بالواقع؟
■ ما اللحظة الفاصلة بين أنا القديم الحالم الساعى لتغيير العالم وبين أنا الذى صرت
■ فى أى يوم وفى أى ساعة وفى أى لحظه فهمت أن الحلم حلم والواقع واقع أكان ذلك أيام الجامعة أم فى دهاليز المجلة «سنة أولى تدريب» وأنا أرى القيم تتساقط أمامى الواحدة تلو الأخرى على يد أساتذتى الكتاب الكبار الذى كنت أحلم يوماً بالحديث لهم
■ أم حين كفرنى من كفرنى، لمجرد أن اعترضت على شعار الإسلام هو الحل وأشاعوا تنصيرى
■ أم حين شعرت بالغربة لأول مرة عن أهلى وأنا فى بلدى واخترت العزلة؟
مصطفى محمود