[right]العقل في إجازة
أن تفهم أو لا تفهم، تلك هي المسألة.
تفهم ان يجتمع العارفون ببواطن الامور لمناقشة ازمة الغذاء في العالم. الناس تموت جوعا. الاسعار ملتهبة والعملات مضطربة والمسؤولون عن اقتصاد العالم يصرون على ان الهبوط على سطح المريخ واشعال فتيل الحروب هنا وهناك اهم من اطعام الجوعى وشفاء المرضى. يمكنني ان افهم ذلك كله لأن التاريخ كما نعرفه هو سلسلة من دورات الصعود لبعض الشعوب ودورات هبوط لغيرها. ناس تصعد وناس تهبط وتدور العجلة بحيث لا يظل الصاعد صاعدا ولا الهابط هابطا.
ولكن ما لا افهمه حقيقة هو الاسباب التي تجعل المغلوب يقدس الغالب ويقلده ويعتبره مثلا أعلى. حين كانت الدولة العثمانية باسطة نفوذها على الدول العربية كانت الافلام المصرية تتفنن في رسم شخصيات اولاد الذوات وكأن جذورهم تركية بحيث تذهب البطلة الى اسطنبول لقضاء العطلة عند جدة او عمة. وحتى اسماء طبقة الاثرياء كثيرا ما عكست الميل لتقليد الاسماء التركية مثل شوكت ونشأت. وكثيرا ما تسللت بعض التعبيرات التركية الى لغة الحوار في الافلام الكوميدية.
ثم ذهب العثمانيون وحل محلهم الانجليز والفرنسيون. ذهبت «تشكرات افندم» وحلت محلها مرادفات انجليزية وفرنسية ما زالت تحتل مكانة ظاهرة في المجاملات الدارجة بين الناس في بلادنا. ولا يمكنك ان تزور مدينة عربية بدون ان تقرأ الحروف اللاتينية على واجهات المحلات التجارية في الاماكن العامة وكأن صاحب المحل يقنعك بأن البضاعة في الداخل بضاعة راقية تنتمي الى بلاد ناطقة بالانجليزية او الفرنسية. كلنا متهم باشتهاء ثقافة الغرب وبتقليد ثقافة الغرب وكأنهم لا يخطئون. حياتنا تتأثر بالفكر الغربي حتى في بيوتنا وفي مدارسنا، فيما نأكل وفيما نلبس وفيما نتعلم عن رعاية اطفالنا. الاثاث الذي نعمر به بيتا يأتينا من ايطاليا، والثياب من باريس والدواء من سويسرا والافلام التي نشاهدها ليل نهار من اميركا. ولكننا لا نتعلم شيئا، نكتفي بالفرجة والشراء والتقليد وكأننا نصر على ان تظل عقولنا في اجازة حتى اشعار آخر.