الحمد لله الواجد الماجد السامع ذكر الذاكر وحمد الحامد لعظمته ركع الراكع وتذلل الساجد. وألقى في الأرض رواسيَ شامخات القواعد. سبحانه تنزه عن الشريك وعن الولد والوالد وأقسم على وحدانيته في القرءان وما ينكر إلا معاند.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقائدنا وقرة أعيننا محمداً رسول الله الذي لا يخيب السائل القاصد. ورضي الله عن أبي بكر التقي الزاهد وعن عمر المساعد وعن عثمان المقتول ظلما بكف الحاسد وعن علي البطل المجاهد.
أما بعد،عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم أوصيكم بالاستعداد ليوم الموقف العظيم لليوم الذي لا ينفع فيه المال ولا البنون إلا من أتى الله بقلب سليم وارتقبوا الموت فإنما هي أنفاس معدودة وعمر يفنى وأيام تنقضي وهذه دُنيا مصيرها للزوال فليحرص كل واحد منا على بناء قبره على بناء آخرته في محاسبة نفسه.
يقول ربُنا تبارك وتعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانيَ اثنين إذ هما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تحزن إن اللهَ معنا}.
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وله من العمر قريب الأربعين، بقي في مكة بعدها ثلاث عشر عاما يدعو الناس جهراً إلى توحيد الله قائلا لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" بلا فتور بلا ملل، حصلت بعدها حادثة عظيمة وخطوة مباركة إنها الهجرة النبوية الشريفة التي تحمل معها معنى التضحية والصبر والثبات والالتزام بالأوامر الإلهية.
اشتدت المواجهة حاصر أهل الشرك المسلمين في أحد شعاب مكة سنين عديدة أجهدهم فيها الجوع والظمأ ولكن الحصار ينفك بعد جهد وتعب ويأذن الرسول لأصحابه بالهجرة.
يهاجر المسلمون في موجتين إلى تلك لبلاد الغريبة، هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة يحملون معهم خُلُقا رفيعا ودعوة حقة وإقبالا على نشرها.
هجرة في سبيل الله لا للدنيا ولا للجاه ولا للراحة بل لإقامة صروح العدل والحق وبناء دولة الإيمان ونشر التوحيد في جزيرة العرب وأرجاء المعمورة. وكان من بين المهاجرين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه خرج من مكة مع أربعين من المستضعفين في وضح النهار ممتشقا سيفه قائلا لصناديد قريش: "يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمه أو تترمل امرأته أو ييتم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب" فلم يتجرأ أحد أن يحول دونه ودون الهجرة. هذا عمر الذي قال فيه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين" وقال أيضا فيه: "عمرُ مصباحُ أهل الجنة" وقال: "ما لقيك الشيطانُ سالكا فجا إلا سلك فجاً غير فجك".
قتل بسيف الغدر والإجرام والطغيان في بيت من بيوت الله في تلك البلاد المباركة والذي كان قد قتله مجوسي كافر وهو مملوك المغيرة بن شعبة واسمه "أبو لؤلؤة الفيروزي" وأصله من نهاوند وكان عمر قد خرج لصلاة الصبح والخبيث أبو لؤلؤة بين الصفوف وبيده خنجر مسموم برأسين فضربه به ثلاث طعنات أحدها تحت سرته فأمسكوه وأصيب معه من الصحابة نحو اثني عشر رجلا مات منهم سبعة ثم طعن المجرم نفسه فمات.
وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب التبصرة أن عمر لما طُعن جاءه ابن عباس فقال: "يا أمير المؤمنين لتَهْنَأْك الجنة فوالله إن اسلامك كان لعزا وإن هجرتك لفتحا وإن ولايتك لعدلا" فقال عمر: "يا ابن عباس غرّ غيري بذلك، أتشهد لي بذلك عند الله" فسكت ابن عباس وكان بينهم علي فقال علي بن أبي طالب: "نعم يا أمير المؤمنين نشهد لك بذلك عند الله" مات ظلما ولكن بعد وفاته بمائة عام انهدم جدار قبره فبانت قدماه وكأنه نائم رضي الله عنه وأرضاه.
هنيئا لعمر هنيئا لمن يخرج من هذه الدنيا على كامل الإيمان.
وينتظر الصديق أبو بكر الإذن بالهجرة إلى المدينة ويسأل النبي ولكنه يقول له: "لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا" حتى يأتي ذلك اليوم الذي يذهب فيه الرسول إلى أبي بكر وهو يقول: "أذن الله لي بالخروج والهجرة" فيقول أبو بكر متلهفا: "الصحبة يا رسول الله" فيرافق رسول الله فإذا بالدمع ينزل من عيني أبي بكر وهو يبكي فرحا بصحبة خير الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وينطلق الركب نحو المدينة، رسول الله وأبو بكر ودليل معهما فإذا وصل إلى خارج مكة يلتفت إليها ويقول: "إنك أحب البلاد إلى الله ورسوله ولولا أن أَهْلَكِ أخرجوني منكِ ما خرجت".
ولن ننسى تلك الحادثة العظيمة عند دخول رسول الله وأبو بكر الغار وصناديد قريش وراءهم ولكن من ينصر الله فلا غالب له، إذ يقول الصديق: "يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا" فيجيب الرسول بلسان الصبر والتوكل والقين: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما يقول الله تبارك وتعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا} ليس معنى الآية أن الله حلّ في الغار لأنه سبحانه لا ينحل في الأجسام، لا يحل في شىء ولا ينحل منه شىء بل هو الحيّ القيوم الذي ليس كمثله شىء وهو تعالى غني عن كل ما سواه عن الزمان والمكان فلا يسكن أرضا ولا سماء بل هو تبارك وتعالى موجود لا يشبه الموجودات موجود بلا كيف ولا مكان، موجود بلا مكان.
يترك رسول الله مكة وفي فراشه علي بن أبي طالب بعد أن أتاه جبريل قائلا: "يا محمد لا تنم هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت فيه" فيمتثل المصطفى للأمر الإلهي ويقول لعلي: "نم في فراشي وتسجى ببردي هذا فنم فيه فإنه لم يخلص إليك شيء تكرهه" ويخرج رسول الله ويرمي الكفار الذي يريدون الكيد به بالتراب وهو يقرأ"يس" حتى يخرج من مكة.
أجله رسول الله ثلاث أيام ليؤدي الأمانات إلى أهلها ففعل ثم لحق بالنبي الأعظم رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله لابنته فاطمة: "لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة".
يؤاخي النبي بين المهاجرين والأنصار في المدينة ويبقى فيها عشر سنين ينشر دين الله إلى أن قبض رسول الله بعد هجرته بعشر سنين في بيت عائشة ودفن هناك.
هذه الهجرة النبوية التي نتعلم منها معاني الصبر والثبات فالمصائب لن تزيدنا إلا رضىً عن الله قدما إلى الخير قدما إلى طريق الجنة فالصبر بكافة أنواعه ضياء للقلوب ورفعة عند الله.
وتبقى لنا موعظة من كلام عمر: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب أن تحاسبوا اليوم يومئذ تعرضون".
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا. أحمده سبحانه وأستهديه وأشكره وأعوذ به وأستغفره وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله فهو المتهد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، عبادَ الله اتقوا الله في السر والعلانية واعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية واعلموا أن أعظم نعمة يؤتاها الإنسان الإيمان بالله ورسوله.
فليفرح الواحد منا بإيمانه وليحرص على أن يحافظ على هذه النعمة العظيمة لأنّ من فقد هذه النعمة ومات وهو فاقد لها فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا.
يقول ربنا تبارك وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وعن أنس رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: "يا ابن ءادم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن ءادم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن ءادم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".
وليعلم أخوة الإيمان والإسلام أن من أصول الاعتقاد عند أهل الحق عند أهل السنة والجماعة أن الكفر لا يغفره الله لمن مات عليه أما ما دون الكفر من الذنوب ولو كان كبيرة كالقتل والزنا والسرقة وغيرها لا يحكم على مرتكبها بالكفر ما لم يستحلها. وفي ذلك يقول الطحاوي: "لا نكفّر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" ويقول الإمام الصادق علي بن أبي طالب: "إني إذا أطعتُهُ رجوتُ ثوابَه وإذا عصيتُهُ خشيتُ عقابَه" (خشيت) أي إن شاء عذبني وإن شاء عفا عني هذا معتقد أهلُ الحق.
ولنا في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي دليلا واضحا على عدم كفر من قتل نفسه ما لم يكن معترضا على الله أو مستحلا لذلك.
هاجر الطفيل مع صاحبه إلى المدينة فمرض صاحبُهُ في الطريق مرضا شديدا لم يحتمله فأخذ حديدة وقطع براجمه فمات في الطريق.
رأى صاحبه في المنام مغطيا يديه فقال له "ما لي أراك مغطيا يديك" قال "قيل لي لم نصلح لك أفسدت وقد غُفر لي بهجرتي إلى نبيّه".
وصل إلى المدينة التقى برسول الله وأخبره بما رأى فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم وليديه فاغفر". فدلت القصة كما دلت الآية والحديث وقول علي والطحاوي أن المسلم إذا وقع في ذنب لا نحكم عليه أنه كافر.
فأوصيكم ونفسي بالثبات على هذا المعتقد الذي فيه النجاة في الآخرة بإذن الله رب العالمين.
واعلموا إخوة الإيمان أن اللهَ أمركم بأمر عظيم بالصلاة والسلام على نبيه الكريم فقال:
{إن الله وملائكته يصلّون على النّبي يا أيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما}
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى ءال محمد كما صليت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم وبارك على محمد وعلى ءال محمد كما باركت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم إنك حميد مجيد.
ارفعوا أكفكم إلى السماء علها تكون ساعة الإجابة واخلصوا النيات لله واعلموا أن الله مطّلع علينا